عامان كاملان انقضيا على المجزرة الكيماوية التي أوقعت نحو 1500 شهيد في غوطة دمشق. ليس فقط دون أن تتحقق العدالة للضحايا، بل مع استمرار القتل اليومي من قبل مرتكب الجريمة الذي بدل أن يحاسب على جريمته، حصل على رخصة بقتل محكوميه بأدوات أخرى. وهذا إثر صفقة تمت بين الروس والأميركيين تقضي بأن يسلم النظام سلاحه الكيماوي، مقابل أن يحظى عمليا بالحصانة مهما ارتكب من جرائم أخرى. لم تكن مشكلة الأميركيين قتل الطغمة الأسدية للسوريين طوال نحو عامين ونصف حتى ذلك الوقت، بل خرقه محظوراتهم الخاصة. هذه الصفقة المشينة لا تقل سوءا عن الجريمة الكيماوية ذاتها، ولو كنا في عالم أقل انحطاطا لتسابقت كبريات الصحف والمنابر العالمية إلى وصف الصفقة بأنها جريمة شنعاء بحق السوريين وبحق الإنسانية. وهي جريمة أكبر بعد لأن النظام ما انفك يستخدم السلاح الكمياوي، على ما فعل قبل أيام في داريا، وما فعل مرات عديدة قبل ذلك في العديد من مناطق البلد، وهو ما لا يعقل أن لا تدري به القوى النافذة التي رتبت الصفقة.
هذا للقول إن كبار العالم فضلوا حماية القاتل العام في سورية ما دام لا يقتل إلا السوريين. هذه القوى الامبريالية شريكة للنظام الأسدي في هندسة المقتلة السورية وإدارة الأزمة على نحو لا يوقف المذبحة، ولا يلحق الأذى بمصالح تلك القوى، ويكفل مصالح الأقوياء الإقليميين القوي الإسرائيلي أولا، ثم الإيراني.
ولقد كان للمجزرة الأخلاقية والسياسية التي تلت المجز الكيماوية دور في الصعود الصاروخي لقاتل ثالث هو تشكيل داعش الفاشي الذي يحتل اليوم مساحات كبيرة من سورية والعراق. كانت داعش موجودة قبل مذبحة الغوطة، لكن التعامل العالمي مع الجريمة، أكثر من الجريمة ذاتها، هو شهادة ميلادها الحقيقية. تزدهر هذه الكائنات الإجرامية حيث تتوفر بيئة اجتماعية محلية مدمرة، وبيئة قانونية وسياسية وأخلاقية عالمية مدمرة، لا يمكن الثقة بها وطلب الحماية منها. وفي سورية توفر الشرطان معا منذ بداية الثورة، وخصوصا بعد صفقة العار التي لن تنسى.
وإنما بفضل ما حظي به القاتل العام من حصانة، وتفضيل منعمي العالم تسليط كل الأضواء على وحش داعش لا على الوحش الأسدي الذي يشبههم، أمكن للأخير أن يرتب مجرزة دوما في 16 آب الجاري، حيث قتل 112 شخصا، نحو 30 منهم أطفال، وجرح أكثر من 500، حين قصف طيرانه سوقا شعبيا.
ولم يكن ينقص السوريين الذي تكالب عليهم نظام طغموي مجرم لم يفكر يوما واحد بتسوية سياسية مع محكوميه، ونظام دولي لا يقل إجراما، وتكوينات فاشية معادية للمجتمعات وذات طاقة إجرامية عالية مثل داعش وجبهة النصرة، إلا أن يقف اليسار العالمي إلى جانب النظام القاتل أو يعادي كفاحهم بقدر ما يجهله. تجري معاقبة السوريين على إغلاق بلدهم عن العالم طوال عقود، وعلى أكاذيب جمعت يسار العالم ويمينه عن مناهضته للامبريالية وعن حداثته. ليس النظام الأسدي مناهضا للامبريالية، أي للسلطة الاستبدادية والامتيازية في العالم، بل هو مقاول صغير عندها منذ سنواته الأولى، على حساب الفلسطينيين واللبنانيين، والسوريين قبل الجميع. حداثته حداثة أشياء، وليست حداثة علاقات وحقوق وقيم، وأهم هذه الأشياء المظهر “العصري” لبشار وزوجته. ونحن لا نرى، كيسار تحرري، بأي شيء يختلف فاشيو ربطة العنق عن فاشيي اللحية؟ وهل أن القتل بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي وتحت التعذيب أقل سواء بأي شكل من القتل الداعشي بالسواطير والرمي من علٍ؟ أي عالم هذا الذي يستمد معاييره من إيديولوجيتين فارغتين على حد سواء للبرجوازيات الغربية؟
إننا إذا نعبر عن تضامننا وشراكتنا مع السوريين في كفاحهم الشاق والمعقد، وندعو إلى التضامن معهم واحترام كفاحهم، ندعو أيضا إلى رفع الحصار السياسي والأخلاقي والإعلامي عن هذا الكفاح، وندين بكل قوانا الثالوث الأسدي الامبريالي الداعشي، وشركائه والمتسترين عليه، اليساريين منهم واليمينيين.
اسطنبول 21/8/20115